الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} تفريع على قوله: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 19] الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام. والمحاجة مُفاعلة ولم يجئ فِعلها إلاَّ بصيغة المفاعلة. ومعنى المحاجّة المخاصمة، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاطمة بالباطل: كما في قوله تعالى: {وحاجّهُ قومه} [الأنعام: 80] وتقدم عنذ قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} في سورة [البقرة: 258]. فالمعنى: فإن خاصموك خاصمَ مكابرة فقل أسلمت وجهي لله. وضمير الجمع في قوله: فإن حاجوك} عائد إلى غير مذكور في الكلام، بل معلوم من المقام، وهو مقام نزول السورة، أعني قضية وفد نجران؛ فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ. فأما المشركون فقد تباعدَ ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الهجرة، فانقطعت محاجّتهم، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة. وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله: {أسلمت وجهي لله} والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى: {كل شيء هالك إلاّ وجهه} [القصص: 88] أي ذاته. وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث: إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات، ومباهته، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد. قال الفخر: فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول: أمّا أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي. وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة: {أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن} وقوله: {أأسلمتم} دون أن يقال: فأعرض عنهم وقُل سلام، ضَرْباً من الإدماج؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام، بإظهار الفرق بين الدينين. والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم، والإعذارُ إليهم، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} خارج عن الحاجة، وإنّما هو تكرّر للدعوة، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم. وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة، ومنه ما طُوي ذكره. الطريقة الثانية أنّ قوله: {فقل أسلمت وجهي} تلخيص للحجة، واستدراج لتسليمهم إياها، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني: إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله: {ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً} [النحل: 123] أمَرَه هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم: فإبراهيم قال: {إنّي وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79] ومحمد عليه الصلاة والسلام قال: " أسلمت وجهي لله " أي فقد قلتُ ما قاله الله، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك، فكيف تنكرون أنّي عتلى الحق، قال: وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]. الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبطً بقوله: {إن الذين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام، فقل: إنّي بالإسلام أسلمتُ وجهي لله فلا ألتفتُ إلى عبادة غيره مثلكم، فديني الذي أرسلتُ به هو الدين عند الله (أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس ديناً عند الله). وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} خارجاً عن الحجة؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم، ويكون مراداً منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحْضيض كقوله: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] أي قل لأولئك: أتُسلمون. وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل: «حاجُّوك» الاستمرار على المحاجّة: أي فإن استمرّ وفدُ نجران على محاجّتهم فقل لهم قولاً فَصْلاً جامعاً للفَرْق بين دينك الذي أرسلتَ به وبين ما هُم متديّنون به. فمعنى {أسلمت وجهي لله} أخلصت عبوديتي له لا أوَجِّه وجهي إلى غيره، فالمراد أنّ هذا كُنْه دين الإسلام، وتَبيَّن أنَّه الدين الخالص، وأنّهم لا يُلْفُوْن تَدَيّنهم على هذا الوصففِ. وقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها، فيدخل المعطوف في التفريع، فيكون تقديرُ النظم: ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقُل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين: أأسلمتم، أي فكرِّرْ دعوتهم إلى الإسلام. والاستفهامُ مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]. وجيء بصيغة الماضي في قوله: {أأسلمتم} دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر، للتنبيه على أنّه يَرجو تحقق إسلامهم، حتى يكونَ كالحاصل في الماضي. اعلم أنّ قوله: {أسلمت وجهي لله} كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون، ويزداد المسلمون يقيناً بدينهم؛ إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله: {أسلمت وجهي لله} عقب قوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وقوله: {فإن حاجوك} وتعقيبه بقوله: {أأسلمتم} أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة، وتختصر المقاولة، ويسهل عَرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة، ليعلموا ما هم عليه من الديانة. وبَيّنتْ هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه؛ فإنّ اسمه الإسلام، وهو مفيد معنى معروفاً في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم، وقد حذف مفعوله ونُزِّل الفعل منزلة الفعل اللاّزم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليهِ، فكأنّه يقول: أسلمتُني أي أسلمتُ نفسي، فبُين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلاّ يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد، فعبّر عنه بقوله: (وجهي) أي نفسي: لظهور ألاّ يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود، بل المعنى البَيِّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات، كقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]. وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكاً له، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله، وتحت هذا معاننٍ جمّة هي جماع الإسلام: نحصرها في عشرة: المعنى الأول: تمام العبودية لله تعالى، وذلك بألاّ يعبد غير الله، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضَها. المعنى الثاني: إخلاصُ العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يُقدّم مرضاةَ غير الله تعالى على مرضاة الله. الثالث: إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضَى به الله، ولا يصدر عنه قول إلاّ فيما أذن الله فيه أن يقال، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، على حسب المقدرة والعلممِ، والتَّصدِي للحجة لتأييد مراد الله تعالى، وهي صفة امتاز بها الإسلام، ويندفع بهذا المعنى النفاق، والملق، قال تعالى في ذكر رسوله: {وما أنا من المتكلّفين} [يس: 86]. الرابع: أن يكون ساعياً لِتَعَرُّف مرادِ الله تعالى من الناس، ليُجري أعماله على وفقه، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة، بدون تحفّز للتكذيب، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة، ولا إعراضضٍ عنها بداعي الهوى وهو الإفحام، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة. الخامس: امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، على لسان الرسل الصادقين، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تغييره. السادس: ألاّ يجعل لنفسه حُكماً مع الله فيما حكم به، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذِ البعض. كما حكى الله تعالى: {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله لِيحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} [النور: 48، 49]، وقد وصف الله المسلمين بقوله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم} [الأحزاب: 36]، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث؛ لأنّهم لم يشاهدوا ميّتاً بُعث. السابع: أن يكون متطلّباً لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله: بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامةِ التنظيرِ بما عُلم أنّه مراد الله، كما قال الله تعالى: {ولو ردون إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. الثامن: الإعراض عن الهوى المذموم في الدين، وعن القوللِ فيه بغير سلطان: {ومن أضَلُّ ممن اتّبع هواه بغير هُدًى من الله} [القصص: 50]. التاسع: أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضاً، وجماعاتِها، ومعاملتها الأممَ كذلك، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات. العاشر: التصديق بما غُيّب عنّا، مما أنبأنا الله به: من صفاته، ومن القضاء والقدر، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق. وقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر، وأمّا النصارى فقد ألَّهوا عيسى، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله؛ لأنّهم عبدوا مع الله غيره، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم. وأما اليهود فإنّهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله، وغيّروا الأحكام اتّباعاً للهوى، وكذّبوا الرسل، وقتلوا الأحبار، فأنَّى يَكون هؤلاء قد أسلموا لله، وأكبر مُبطل لذلك هو تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه. ثم إنّ قوله: {فإن أسلموا فقد اهتدوا} معناه: فإن التزموا النزول إلى التحقّق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا، ولم يبق إلا أن يتّبعوك لتَلقي ما تُبَلِّغِهم عن الله؛ لأنّ ذلك أول معاني إسلام الوجه لله، وإن تولّوا وأعرضوا عن قولك لهم: آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبِعة، فإنّما عليك البلاغ، فقوله: {فإنما عليك البللاغ} وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنّن أنّ عدم اهتدائهم، وخيبتَك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك؛ إذ لم تُبعث إلاّ للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلَّغ إليهم. وقوله: {والله بصير بالعباد} أي مطّلع عليهم أتمّ الأطّلاع، فهو الذي يتولّى جَزاءهم وهو يعلم أنّك بلّغت ما أمرت به. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي، وأبو جعفر، وخلف «اتبعني» بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف. وقرأه الباقون بإثبات الياء في الوصل والوقف.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)} استئناف لبيان بعض أحوال اليهود، المنافية إسلامَ الوجه لله، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود، وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن. والمناسبة: جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} (آل عمران: 20. (وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظية، وليس المراد إفادة التجدّد؛ لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله: {يكفرون} لا يتأتَّى في قوله: {ويقتلون} لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمننٍ مضى. والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي: لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم، وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل، وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى، وقتلوا النبي إرْمِيَاء بمصر، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم، وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه، وقَتَل مَنشا ابنُ حزقيال، ملكُ إسرائيل، النبي أشعياء: نشره بالمِنشار لأنّه نهاه عن المنكر، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل، ولم يحموه، فكان هذا القتل معدوداً عليهم، وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم؛ لأنّهم رضُوا بها، وألَحّوا في وقوعها. وقوله: {بغير حق} ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ {يقتلون النبيّئين} إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ؛ فإنّه لا يقتل نبيء بحق، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] وقولِه: {ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} وقد تقدم في سورة البقرة (41). والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم. ولما كان قوله: ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} مومئاً إلى وجه بناء الخبر: وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع. وقرأ الجمهور من العشرة {يقتلون} الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده «ويُقاتلون» بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل. والفاء في {فبشّرهم} فاء الجواب المستعملةُ في الشرط، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط، إشارة إلى أنّه ليس المقصود، قوماً معيّنين، بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً. واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً. وحقيقة التبشير: الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر (بفتح الباء) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبَرين، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم، أو التمليح، كما أطلق عمرو ابن كلثوم. اسم الأضياف على الأعداء، وأطلق القرى على قتل الأعداء، في قوله: نزلتم مَنزل الأضياففِ منّا *** فعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا قَزَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكم *** قُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا قال السكاكي: وذلك بواسطة انتزاع شَبه التضادّ وإلحافه بشَبه التناسب. وجيء باسم الإشارة في قوله: {أولئك الذين حبطت أعمالهم} لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صِلاتُ الموصول أكملَ تمييز، وللتنبيه على أنّهم أحِقَّاءِ بما سيخبر به عنهم بعدَ اسم الإشارة. واسم الإشارة مبتدأ، وخبره {الذين حَبِطتْ أعمالهم}، وقيل هو خبر (إنّ) وجملة {فبشرهم بعذاب أليم} وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقاً. وحَبَط الأعماللِ إزالةِ آثارها النافعة من ثواببٍ ونعيم في الآخرة، وحياةٍ طيّبة في الدنيا، وإطلاق الحَبَط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحَبَط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل، يكون سبب موتها، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به. وتقدم عند قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} في سورة البقرة (217). والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين، فلمّا كفروا بآيات الله، وجحدوا نبوءة محمد، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم، ولذلك ابتُدئ به بقوله: فبشرهم بعذاب أليم}. فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا، ومعنى {وما لهم من ناصرين} ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به. وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} استئناف ابتدائي: للتعجيب من حالة اليهود في شدّة ضلالهم. فالاستفهام في قوله: {ألم تر} للتقرير والتعجيب، وقد جاء الاستعمال في مثله أن يكون الاستفهام داخلاً على نفي الفعل والمراد حصولُ الإقرار بالفعل ليكون التقرير على نفيه محرّضاً للمخاطب على الاعتراف به بناء على أنّه لا يرضى أن يكون ممّن يجهله، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربّه} في سورة [البقرة: 258]. والرؤية بصرية بدليل تعديتها بحرف إلى: الذي يتعدى به فعل النظر، وجوز صاحب الكشاف} في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة} في سورة [النساء: 44]: أن تكون الرؤية قلبية، وتكون (إلى) داخلة على المفعول الأول لتأكيد اتّصال العِلم بالمعلوم وانتهائه المجازي إليه، فتكون مثل قوله: {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم} [البقرة: 258]. وعُرف المتحدّث عنهم بطريق الموصولية دون لقبهم، أعني اليهودَ: لأنّ في الصلة ما يزيد التعجيب من حالهم؛ لأنّ كونهم على علم من الكتاب قليللٍ أو كثير من شأنه أن يصدّهم عمّا أخبر به عنهم. على ما في هذه الصلة أيضاً من توهين علمهم المزعوم. والكتاب: التوراة فالتعريف للعهد، وهو الظاهر، وقيل: هو للجنس. والمراد بالذين أوتوه هم اليهود، وقيل: أريد النصارى، أي أهل نجران. والنصيب: القسط والحظّ وتقدم عند قوله تعالى: {أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا} في سورة [البقرة: 202]. {وتنكير نصيباً} للنوعية، وليس للتعظيم؛ لأنّ المقام مقام تهاون بهم، ويحتمل أن يكون التنوين للتقليل. و {من} للتبعيض، كما هو الظاهر من لفظ النصيب، فالمراد بالكتاب جنس الكتب، والنصيب هو كتابُهم، والمراد: أوتوا بعض كتابهم، تعريضاً بأنّهم لا يعلمون من كتابهم إلاّ حظّاً يسيراً، ويجوز كون مِن للبيان. والمعنى: أوتوا حظّاً من حظوظ الكمال، هو الكتاب الذي أوتوه. وجملة {يدعون إلى كتاب الله} في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها، وهو، قوله: {ثم يتولى فريق منهم} لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله، وإذا جعلت (تَر) قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمتَ بُعده. و {كتاب الله}: القرآن كما في قوله: {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللَّه وراء ظهورهم} [البقرة: 101]. فهو غير الكتاب المراد في قوله: {من الكتاب} كما ينبئ به تغيير الأسلوب. والمعنى: يُدعون إلى اتّباع القرآن والنظرِ في معانيه ليحكم بينهم فيأبون. ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب، وإنّما غير اللفظ تفنّناً وتنويهاً بالمدعوّ إليه، أي يُدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد، وتلميحَه إلى صفاته. روي، في سبب نزول هذه الآية: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدْراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام، فقال له نُعيم بن عمرو، والحارث بن زَيد: على أيّ دين أنت قال: على ملة إبراهيم قالا: فإنّ إبراهيم كان يهودياً. فقال لهما: إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها، فأبيا، وقوله: {ثم يتولى فريق منهم} (ثم) عاطفة جملة {يتولّى فريق منهم} على جملة {يدعون} فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت (ثم) على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولَّون ثم يتولّون؛ لأنّ المرء قد يُعرض غضباً، أو لِعِظَم المفاجأة بالأمر غيرِ المترقَّب، ثم يثوب إليه رشده، ويراجع نفسه، فيرجع، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخخٍ حاصل بفحوى الخطاب. فدخول {ثم} للدلالة على التراخي الرتبي؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتُوا الكتاب ونقلوه، فإذا دُعوا إلى كتابهم تولّوا. والإتيان بالمضارع في قوله: {يتولون} للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن عُلبة الحارثي: ولا يكشف الغَمَّاء إلاّ ابن حرة *** يَرَى غَمَراتتِ الموتتِ ثُم يَزُورها والتولّي مجاز عن النفور والإباء، وأصله الإعراض والانصراف عن المكان. وجملة {وهم معرضون} حال مؤكّدة لجملة {يتولّى فريق} إذ التولّي هو الإعراض، ولما كانت حالاً لم تكن فيها دلالة على الدوام والثبات فكانت دالة على تجدّد الإعراض، منهم المفاد أيضاً من المضارع في قوله: {ثم يتولى فريق منهم}. وقوله: {ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار} الإشارة إلى تولّيهم وإعراضهم، والباء للسببية: أي إنّهم فعلوا ما فعلوا بسبب زعمهم أنّهم في أمان من العذاب إلاّ أياماً قليلة، فانعدَم اكتراثهم باتّباع الحق؛ لأنّ اعتقادهم النجاة من عذاب الله على كل حاللٍ جَرّأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض. وهذا الاعتقاد مع بطلانه مؤذن أيضاً بسفالة همّتهم الدينية، فكانوا لا ينافسون في تزكية الأنفس. وعبر عن الاعتقاد بالقول دلالة على أنّ هذا الاعتقاد لا دليل عليه وأنّه قول مفتري مدلّس، وهذه العقيدة عقيدة اليهود، كما تقدم في البقرة. وقوله: {وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} أي ما تقوّلوه على الدِّين وأدخلوه فيه، فلذلك أتي بفي الدالة على الظرفية المجازية. ومن جملة ما كانوا يفترونه قولهم: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80]، وكانوا أيضاً يزعمون أنّ الله وعد يعقوب ألاّ يعذّب أبناءه. وقد أخبر الله تعالى عن مفاسد هذا الغرور والافتراء بإيقاعها في الضلال الدائم، لأنّ المخالفة إذا لم تكن عن غرور فالإقلاع عنها مرجوٌ، أما المغرور فلا يترقّب منه إقلاع. وقد ابتلي المسلمون بغرور كثير في تفاريع دينهم وافتراءات من الموضوعات عادت على مقاصد الدين وقواعد الشريعة بالإبطال، وتفصيل ذلك في غير هذا المجال. وقوله: {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه} تفريع عن قوله: {وغرهم في دينهم} أي إذا كان ذلك غروراً فكيف حالهم أو جزاؤهم إذا جمعناهم ووفيناهم جزاءهم والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والتفظيع مجازاً. «وكيف» هنا خبر لمحذوف دل على نوعه السياق، و{إذا} ظرف منتصب بالذي عمِلَ في مظروفه: وهو ما في كيف من معنى الاستفهام التفظيعي كقولك: كيف أنت إذا لقيت العدوّ، وسيجيء زيادة بيان لمثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} في سورة [النساء: 41].
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك. و {اللهم} في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء، ومعناه يا الله. ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة: إنّ الميم عوض من حرف النداء يريدون أنّ لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لما لم يقع إلاّ عند إرادة الدعاء صار غنيّاً عن جلب حرف النداء اختصاراً، وليس المراد أنّ الميم تفيد النداء. والظاهر أنّ الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة (اللَّهم) من عبرانية أو قحطانية وأنّ أصلها لاَ هُم مرداف إله. ويدل على هذا أنّ العرب نطقوا به هكذا في غير النداء كقول الأعشى: كدعوةٍ من أبي رباح *** يَسْمَعُها اللهُم الكبير وأنّهم نطقوا به كذلك مع النداء كقوللِ أبي خراش الهذلي: إنِّي إذا ما حَدَتٌ ألَمَّا *** أقُول يا اللهُمّ يا اللهُمّا وأنّهم يقولون يا الله كثيراً. وقال جمهور النحاة: إنّ الميم عوض عن حرف النداء المحذوف وإنّه تعويض غير قياسي: وإنّ ما وقع على خلاف ذلك شذوذ. وزعم الفراء أنّ اللهم مختزل من اسم الجلالة وجملة أصلها «يا الله أمّ» أي أقبل علينا بخير، وكل ذلك تكلّف لا دليل عليه. والمالك هو المختصّ بالتصرّف في شيء بجميع ما يتصرّف في أمثاله مما يُقصد له من ذواتها، ومنافعها، وثمراتها، بما يشاء فقد يكون ذلك بالانفراد، وهو الأكثر، وقد يكون بمشاركةٍ: واسعةٍ، أو ضيّقة. والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون، وإقامةِ الحقوق، ورعاية المصالح، ودفع العدوان عنها، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها، بالرغبة والرهبة. وانظر قوله تعالى: {قالوا أنّى يكون له المُلك علينا} في سورة البقرة (247) وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4]، فمعنى مالك الملك أنّه المتصرّف في نوع الملك (بالضم) بما يشاء، بأن يراد بالمُلك هذا النوع. والتعريف في المُلك الأول لاستغراق الجنس: أي كل ملك هو في الدنيا. ولما كان المُلك ماهية من المواهي، كان معنى كون الله مالك المُلك أنّه المالك لتصريف المُلك، أي لإعطائه، وتوزيعه، وتوسيعه، وتضييقه، فهو على تقدير مضاف في المعنى. والتعريف في المُلك الثاني والثالث للجنس، دون استغراق أي طائفة وحصّة من جنس المُلْك، والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن. ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} [آل عمران: 26] فإنّ إيتاءه ونزعه مقول عليه بالتشكيك: إيجاباً، وسلباً، وكثرة وقلّة. والنزع: حقيقة إزالة الجِرم من مكانه: كنزع الثوب، ونزع الماء من البئر، ويستعار لإزالة الصفات والمعاني كما قال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غلّ} [الأعراف: 43] بتشبيه المعنى المتمكّن بالذات المتّصلة بالمكان، وتشبيه إزالته بالنزع، ومنه قوله هنا: {تنزع الملك} أي تزيل وصف الملك ممّن تشاء. وقوله: {بيدك الخير} تمثيل للتصرّف في الأمر؛ لأنّ المتصرّف يكون أقوى تصرّفه بوضع شيء بيده، ولو كان لا يوضع في اليد، قال عنترة بن الأخرس المَعْني الطائي: فما بيديك خير أرتجيه *** وغيرُ صدودَك الخطبُ الكبير وهذا يعدّ من المتشابه لأنّ فيه إضافة اليد إلى ضمير الجلالة، ولا تشابه فيه: لظهور المراد من استعماله في الكلام العربي. والاقتصار على الخير في تصرّف الله تعالى اكتفاء كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أي والبرد. وكان الخير مقتضى بالذات أصالة والشرّ مقتضى بالعَرَض قال الجلال الدواني في شرح ديباجة هياكل النور: «وخُص الخير هنا لأنّ المقام مقام ترجّي المسلمين الخيرمن الله، وقد علم أنّ خيرهم شرّ لضدّهم كما قيل: مصائب قوم عند يوم فوائدُ *** أي «الخير مقتضَى الذات والشرّ مقتضي بالعرض وصادر بالتَبع لِمَا أنّ بعض ما يتضمن خيرات كثيرة هو مستلزم لشرّ قليل، فلو تركت تلك الخيرات الكثيرة لذلك الشرّ القليل، لصار تركها شرّاً كثيراً، فلما صدر ذلك الخير لزمه حصول ذلك الشرّ». وحقيقة «تُولج» تدخل وهو هنا استعارة لتعاقب ضوء النهار وظلمة الليل، فكأنَّ أحدهما يدخل في الآخر، ولازدياد مدة النهار على مدة الليل وعكسه في الأيام والفصول عدا أيام الاعتدال وهي في الحقيقة لحظات قليلة ثم يزيد أحدهما لكنّ الزيادة لا تدرك في أولها فلا يعرفها إلاّ العلماء، وفي الظاهر هي يومان في كل نصف سنة شمسية قال ابن عرفة: «كان بعضهم يقول: القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوامّ وألفاظ يفهمها الخواصّ وما يفهمه الفريقات ومنه هذه الآية؛ فإنّ الإيلاج يشمل الأيام التي لا يفهمها إلاّ الخواص والفصولَ التي يدركها سائر العوام». وفي هذا رمز إلى ما حدث في العالم من ظلمات الجهالة والإشراك، بعد أن كان الناس على دين صحيح كدين موسى، وإلى ما حدث بظهور الإسلام من إبطال الضلالات، ولذلك ابتدئ بقوله: {تولج الليل في النهار}، ليكون الانتهاء بقوله: {وتولج النهار في الليل}، فهو نظير التعريض الذي بيّنته في قوله: {تؤتي الملك من تشاء} الآية. والذي دل على هذا الرمز افتتاح الكلام بقوله: {اللهم مالك الملك} إلخ. وإخراج الحي من الميّت كخروج الحيوان من المضغة، ومن مُح البيضة. وإخراج الميت من الحي في عكس ذلك كلّه، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله: {ومن يخرج الحي من الميّت} في سورة يونس (31). وهذا رمز إلى ظهور الهُدى والملك في أمّة أمية، وظهور ضلال الكفر في أهل الكتابين، وزوال الملك من خَلَفهم يعد أن كان شعار أسلافهم، بقرينة افتتاح الكلام بقوله: اللهم مالك الملك} إلخ. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف: «الميّت» بتشديد التحتية. وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب: بسكون التحتية وهما وجهان في لفظ الميت. وقوله: {وترزق من تشاء بغير حساب} هو كالتذييل لذلك كلّه. والرزق ما يَنتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمارَ كقوله: {وجد عندها رزقاً} [آل عمران: 37] وقوله: {فليأتكم برِزق منه} [الكهف: 19]، ويطلق على أعمّ من ذلك ممّا ينتفع به كما في قوله تعالى: {يَدْعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب. وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب ثم قال إنّ لهذا لَرِزْقُنا مَالَه من نَفَاد} [ص: 51 54] وقوله: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله} ومن ثم سميت الدراهم والدنانير رزقاً: لأنّ بها يعوض ما هو رزق، وفي هذا إيماء إلى بشارة للمسلمين بما أخبئ لهم من كنوز الممالك الفارسية والقيصرية وغيرها.
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)} استئناف عُقب به الآي المتقدمة، المتضمّنة عداء المشركين للإسلام وأهله، وحسد اليهود لهم، وتولّيهم عنه: من قوله: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم} [آل عمران: 116] إلى هنا. فالمناسبة أنّ هذه كالنتيجة لما تقدمها: نَهى الله المؤمنين بعد ما بيّن لهم بغي المخالفين وإعراضهم أنْ يتخذوا الكفّار أولياءَ من دون المؤمنين؛ لأنّ اتّخاذهم أولياء بعد أنْ سَفَّه الآخرون دينهم وسَفَّهوا أحلامهم في اتِّباعه يعدّ ضعفاً في الدين وتصويباً للمعتدين. وشاع في اصطلاح القرآن إطلاق وصف الكفر على الشرك، والكافرين والذين كفروا على المشركين، ولعلّ تعليق النهي عن الاتّخاذ بالكافرين بهذا المعنى هنا لأنّ المشركين هم الذين كان بينهم وبين المهاجرين صلات، وأنساب، ومودّات، ومخالطات مالية، فكانوا بمظنّة الموالاة مع بعضهم. وقد علم كل سامع أنّ من يشابه المشركين في موقفه تجاه الإسلام يكون تولّي المؤمنين إياه كتولّيهم المشركين. وقد يكون المراد بالكافرين جميع المخالفين في الدين: مثل المراد من قوله: {ومن يكفر بآيات اللَّه فإنّ اللَّه سريع الحساب} [آل عمران: 19]، فلذلك كله قيل: إن الآية نزلت في «حاطب بن أبي بلتعه» وكان كان من أفاضل المهاجرين وخلّص المؤمنين، إلا أنه تأول فكتب كتاباً إلى قريش يعلمهم بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وقيل: نزلت في أسماءَ ابنة أبي بكر لما استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بِرّ والدتها وصِلتِها، أي قبل أن تجيء أمّها إلى المدينة راغبة؛ فإنّه ثبت في «الصحيح» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: صِلِي أمَّككِ. وقيل: نزلت في فريق من الأنصار كانوا متولِّين لكعْب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيق، وهما يهوديان بيثرب. وقيل: نزلت في المنافقين وهم ممّن يتولى اليهود؛ إذ هم كفّار جهتهم، وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلف مع اليهود، فلما كان يوم الأحزاب، قال عُبادة للنبيء صلى الله عليه وسلم إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يَخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو. وقيل: نزلت في عمار بن ياسر لما أخذه المشركون فعذّبوه عذاباً شديداً، فقال ما أرادوه منه، فكَفُّوا عنه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " كيف تجد قلبك " قال: «مطمئناً بالإيمان» فقال: فإنْ عَادُوا فعُد. وقوله: {من دون المؤمنين} (من) لتأكيد الظرفية. والمعنى: مباعدين المؤمنين أي في الولاية، وهو تقييد للنهي بحسب الظاهر، فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياءَ دون المؤمنين، أي ولاية المؤمن الكفّار التي تنافي ولايته المؤمنين، وذلك عندما يكون في تولّي الكافرين إضرار بالمؤمنين، وأصل القيود أن تكون للاحتراز، ويدل لذلك قوله بعده: «ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء» لأنّه نفيٌ لوصلة من يفعل ذلك بجانب الله تعالى في جميع الأحوال، والعرب تقول: «أنت منّي وأنا منك» في معنى شدة الاتّصال حتى كأنّ أحدهما جزء من الآخر، أو مبتدأ منه، ويقولون في الانفصال والقطيعة: لست منّي ولست منك؛ قال النابغة: فإنّي لستُ منك ولستَ منّي *** فقوله: {في شيء} تصريح بعموم النفي في جميع الأحوال لرفع احتمال تأويل نفي الاتّصال بأغلب الأحوال فالمعنى أنّ فاعل ذلك مقطوع عن الانتماء إلى الله، وهذا ينادي على أنّ المنهي عنه هنا ضرب من ضروب الكفر، وهو الحال التي كان عليها المنافقون، وكانوا يظنّون ترويجها على المؤمنين، ففضحهم الله تعالى، ولذلك قيل: إنّ هذه الآية نزلت في المنافقين، ومِمَّا يدل على ذلك أنّها نظير الآية الأخرى: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً إنّ المنافقين في الدّرَك الأسفل من النار} [النساء: 144، 145]. وقيل: لا مفهوم لقوله: {من دون المؤمنين} لأنّ آيات كثيرة دلت على النهي عن ولاية الكافرين مطلقاً: كقوله: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51] وقوله {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} [المائدة: 57] وإلى هذا الوجه مالَ الفخر. واسم الإشارة في قوله: {ذلك} بمعنى ذلك المذكور، وهو مضمون قوله: {أولياء من دون المؤمنين}. والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً، والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط، وتعتورها أحوال تتبعها أحكام، وقد استخلصتُ من ذلك ثمانية أحوال. الحالة الأولى: أن يتّخذ المسلم جماعة الكفر، أو طائفته، أولياء له في باطن أمره، ميلاً إلى كفرهم، ونواء لأهل الإسلام، وهذه الحالة كفر، وهي حال المنافقين، وفي حديث عتبان بن مالك: أنّ قائلاً قال في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين مالك بن الدُّخْشُن "، فقال آخر: «ذلك منافق لا يحبّ الله ورسوله» فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقل ذلك أما سمعتَه يقول لا إله إلاّ الله يبْتغي بذلك وجه الله " فقال القائل: «الله ورسوله أعلم فإنّا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين». فجعل هذا الرجل الانحياز إلى المنافقين علامة على النفاق لولا شهادة الرسول لمالك بالإيمان أي في قلبه مع إظهاره بشهادة لا إله إلاّ الله. الحالة الثانية: الركون إلى طوائف الكفر ومظاهرتهم لأجل قرابة ومحبة دون الميل إلى دينهم، في وقت يكون فيه الكفّار متجاهرين بعداوة المسلمين، والاستهزاء بهم، وإذاهم كما كان معظم أحوال الكفّار، عند ظهور الإسلام مع عدم الانقطاع عن مودة المسلمين، وهذه حالة لا توجب كفر صاحبها، إلاّ أنّ ارتكبها إثم عظيم، لأنّ صاحبها يوشك أن يواليهم على مضرة الإسلام، على أنّه من الواجب إظهار الحميّة للإسلام، والغيرة عليه، كما قل العتابي: تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني *** صديقك إنّ الرأي عنك لَعَازب وفي مثلها نزل قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} [المائدة: 9] قال ابن عطية: كانت كفّار قريش من المستهزئين» وفي مثل ذلك ورد قوله تعالى: {إنّما ينهاكم اللَّهعن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم} [الممتحنة: 9] الآية وقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً} [آل عمران: 118] الآية نزلت في قوم كان، بينهم وبين اليهود، جوار وحلف في الجاهلية، فداوموا عليه في الإسلام فكانوا يأنسون بهم ويستنيمون إليهم، ومنهم أصحاب كعب بن الأشرف، وأبي رافع ابن أبي الحُقَيْق، وكانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالة الثالثة: كذلك، بدون أن يكون طوائف الكفّار متجاهرين ببغض المسلمين ولا بأذاهم، كما كان نصارى العرب عند ظهور الإسلام قال تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين ءامنوا، الذين قالوا إنّا نصارى} [المائدة: 82] وكذلك كان حال الحبشة فإنّهم حموا المؤمنين، وآووهم، قال الفخر: وهذه واسطة، وهي لا توجب الكفر، إلاّ أنّه منهيّ عنه، إذ قد يجرّ إلى استحسان ما هم عليه وانطلاء مكائدهم على المسلمين. الحالة الرابعة: موالاة طائفة من الكفّار لأجل الإضرار بطائفة معيّنة من المسلمين مثل الانتصار بالكفّار على جماعة من المسلمين، وهذه الحالة أحكامها متفاوتة، فقد قال مالك، في الجاسوس يتجسس للكفّار على المسلمين: إنّه يُوكل إلى اجتهاد الإمام، وهو الصواب لأنّ التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غروراً، ويفعله طمعاً، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأباً وعادة، وقال ابن القاسم: ذلك زندقة لا توبة فيه، أي لا يستتاب ويقتل كالزنديق، وهو الذي يُظهر الإسلام ويسر الكفار، إذَا اطُّلع عليه، وقال ابن وهب رِدّة ويستتاب، وهما قولان ضعيفان من جهة النظر. وقد استعان المعتمد ابن عباد صاحب أشبيلية بالجلالقة على المرابطين اللمْتونيين، فيقال: إنّ فقهاء الأندلس أفتوا أميرَ المسلمين علياً بنَ يوسف بننِ تاشفين، بكفر ابن عبّاد، فكانت سبب اعتقاله ولم يقتله ولم ينقل أنّه استتابه. الحالة الخامسة: أن يتّخذ المؤمنون طائفة من الكفّار أولياء لنصر المسلمين على أعدائهم، في حين إظهار أولئك الكفار محبة المسلمين وعَرْضِهم النصرة لهم، وهذه قد اختلف العلماء في حكمها: ففي المدوّنة قال ابن القاسم: لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله عليه السلام لكافرٍ تبعه يوم خروجه إلى بدر: " ارجع فلن أستعين بمشرك " وروى أبو الفرج، وعبد الملك بن حبيب: أنّ مالكاً قال: لا بأس بالاستعانة بهم عند الحاجة، قال ابن عبد البر: وحديث «لَن أستعين بمشرك» مختلف في سنده، وقال جماعة: هو منسوخ، قال عياض: حملُه بعض علمائنا على أنّه كان في وقت خاص واحتجّ هؤلاء بغزو صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين، وفي غزوة الطائف، وهو يومئذ غير مسلم، واحتجوا أيضاً بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أنّ أبا سفيان يجمع الجموع ليوم أحد قال لبني النضير من اليهود: «إنَّا وأنتم أهل كتاب وإنّ لأهل الكتاب على أهل الكتاب النصر فإمّا قاتلتم معنا وإلاّ أعرتمونا السلاح» وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعي، ومن أصحابنا من قال: لا نطلب منهم المعونة، وإذا استأذنونا لا نأذن لهم: لأنّ الإذن كالطلب، ولكن إذا أخرجوا معنا من تلقاء أنفسهم لم نمنعهم، ورام بهذا الوجه التوفيق بين قول ابن القاسم ورواية أبي الفرج، قاله ابن رشد في البيان من كتاب الجهاد، ونقل ابن رشد عن الطحاوي عن أبي حنيفة: أنّه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون المشركين، قال ابن رشد: وهذا لا وجه له، وعن أصبغ المنع مطلقاً بلا تأويل. الحالة السادسة: أن يتّخذ واحد من المسلمين واحداً من الكافرين بعينه وَليّاً له، في حسن المعاشرة أو لقرابة، لكمال فيه أو نحو ذلك، من غير أن يكون في ذلك إضرار بالمسلمين، وذلك غير ممنوع، فقد قال تعالى في الأبوين: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً} [لقمان: 15] واستأذنتْ أسماءُ النبي صلى الله عليه وسلم في برّ والدتها وصِلتها، وهي كافرة، فقال لها: «صِلِي أمّك» وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} [الممتجنة: 8] قيل نزلت في والدة أسماءَ، وقيل في طوائف من مشركي مكة: وهم كنانة، وخزاعة، ومزينة، وبنو الحرث ابن كعب، كانوا يودّون انتصار المسلمين على أهل مكة. وعن مالك تجوز تعزية الكافر بمن يموت له. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح للأخنس بن شريق الثقفي، لما يبديه من محبة النبي، والتردّد عليه، وقد نفعهم يوم الطائف إذ صرف بني زهرة، وكانوا ثلاثمائة فارس، عن قتال المسلمين، وخنس بهم كما تقدم في قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية. الحالة السابعة: حالة المعاملات الدنيوية: كالتجارات، والعهود، والمصالحات، أحكامها مختلفة باختلاف الأحوال وتفاصيلها في الفقه. الحالة الثامنة: حالة إظهار الموالاة لهم لاتّقاء الضر وهذه هي المشار إليها بقوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة}. والاستثناء في {إلاّ أن تتّقوا} منقطع ناشئ عن جملة {فليس من الله في شيء} لأنّ الاتّقاء ليس ممّا تضمنه اسم الإشارة، ولكنّه أشبَه الولاية في المعاملة. والاتّقاء: تجنّب المكروه، وتعديته بحرف (مِن) إمّا لأنّ الاتّقاء تستّر فعديّ بمن كما يعدّى فعل تستّر، وإمّا لتضمينه معنى تخافوا. و {تُقاةً} قرأه الجمهور: بضم المثنّاة الفوقية وفتح القاف بعدها ألف، وهو اسم مصدر الاتّقاء، وأصله وُقَيَة فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة تبعاً لفعل اتّقى إذ قلبت واوه تاء ليتأتّى إدغامها في تاء الافتعال، ثم أتبعوا ذلك باسم مصدره كالتُّجاة والتكْلة والتوءَدَة والتخْمة إذ لا وجه لإبدال الفاء تاء في مثل تقاة إلاّ هذا. وشذّ تُراث. يدل لهذا المقصد قول الجوهري: «وقولهم تُجاهك بني على قولهم اتّجه لهم رأي». وفي «اللسان» في تخمة، «لأنّهم توهّموا التاء أصلية لكثرة الاستعمال». ويدل لذلك أيضاً قرن هذه الأسماء مع أفعالها في نحو هذه الآية، ونحو قوله: {يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته} [آل عمران: 102] وقرأه يعقوب بفتح الفوقية وكسر القاف وفتح التحتية مشدّدة بوزن فَعِيلة. وفائدة التأكيد بالمفعول المطلق هنا: الإشارة إلى تحقّق كون الحالة حالة تَقِية، وهذه التقية مثل الحال التي كان عليها المستضعفون من المؤمنين الذين لم يَجدوا سبيلاً للهجرة، قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106] ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكّنت طوائف منهم من الفرار، وطوائف من استئذان الكفّار في الهجرة إلى بلاد الإسلام فأذن لهم العدوّ، وكذلك يجب أن تكون التُّقاة غير دائمة لأنّها إذا طالت دخل الكفر في الذراري. وقوله: {ويحذركم الله نفسه} تحذير من المخالفة ومن التساهل في دعوى التقية واستمرارها أو طول زمانها. وانتصاب {نفسَه} على نزع الخافض وأصله ويحذّركم الله من نفسه، وهذا النزع هو أصل انتصاب الاسمين في باب التحذير في قولهم إياك الأسدَ، وأصله أحَذِّرك من الأسد. وقد جعل التّحذير هنا من نفس الله أي ذاته ليكون أعمّ في الأحوال، لأنّه لو قيل يحذركم الله غضبه لتوهّم أنّ لله رضا لا يضرّ معه، تعمّد مخالفة أوامره، والعربُ إذا أرادت تعميم أحوال الذات علّقت الحكم بالذات: كقولهم لولا فلان لهلك فلان، وقوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون إلى قوله لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} [الفتح: 25] ومن هذا القبيل تعليق شرط لولا على الوجود المطلق الذي سوغ حذف الخبر بعد لولا. وسيجيء الكلام على صحة إطلاق النفس مضافاً إلى الله تعالى في سورة العقود عند قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116]. وهذا إعذار وموعظة وتهديد بالعقاب على مخالفة ما نهاهم الله عنه. و {المصير}: هو الرجوع، وأريد به البعث بعد الموت وقد عَلِم مثبتو البعث لا يكون إلاّ إلى الله، فالتقديم في قوله: {وإلى الله} لمجرد الاهتمام، وهذا تعريض بالوعيد أكد به صريح التهديد الذي قبله.
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)} انتقال من التحذير المجمل إلى ضرب من ضروب تفصيله، وهو إشعار المحذّر باطّلاع الله على ما يخفونه من الأمر. وذكر الصدور هنا والمراد البواطن والضمائر: جرياً على معروف اللغة من إضافة الخواطر النفسية إلى الصدر والقلب، لأنّ الانفعالات النفسانية وتردّدات التفكّر ونوايا النفوس كلّها يشعر لها بحركات في الصدور. وزاد أو تُبدوه فأفاد تعميم العلم تعليماً لهم بسعة علم الله تعالى لأنّ مقام إثبات صفات الله تعالى يقتضي الإيضاح. وجملة {ويعلم ما في السماوات وما في الأرض} معطوفة على جملة الشرط فهي معمولة لفعل قل، وليست معطوفة على جواب الشرط: لأنّ علم الله بما في السماوات وما في الأرض ثابت مطلقاً غير معلّق على إخفاء ما في نفوسهم وإبدائه وما في الجملة من التعميم يجعلها في قوة التذييل. وقوله: {والله على كل شيء قدير} إعلام بأنّه مع العلم ذو قدرة على كلّ شيء، وهذا من التهديد؛ إذ المهدِّد لا يحول بينه وبين تحقيق وعيده إلاّ أحد أمرين: الجهل بجريمة المجرم، أو العجز عنه، فلما أعلمهم بعموم علمه، وعموم قدرته، علموا أنّ الله لا يفلتهم من عقابه. وإظهار اسم الله دون ضميره فلم يقل وهو على كل شيء قدير: لتكون الجملة مستقلة فتجري مجرى المثل، والجملة لها معنى التذييل. والخطاب للمؤمنين تبعاً لقوله: {لا يتّخذ المؤمنون الكافرين} [آل عمران: 28] الآية.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} جملة مستأنفة، أصل نظم الكلام فيها: تَوَدّ كل نفس لَوْ أنّ بينهَا وَبيْن ما عملت من سوء أمداً بعيداً يومَ تَجِدُ مَا عملت من خير مُحْضراً. فقُدم ظرفها على عامله على طريقة عربية مشهورة الاستعمال في أسماء الزمان، إذا كانت هي المقصود من الكلام، قضاء لحق الإيجاز بنسج بديع. ذلك أنّه إذا كان اسم الزمان هو الأهمّ في الغرض المسوق له الكلام، وكان مع ذلك ظرفاً لشيء من علائقه، جيء به منصوباً على الظرفية، وجُعل معنى بعضضِ ما يحصل منه مصوغاً في صيغة فعللٍ عامل في ذلك الظرف. أو أصل الكلام: يحضر لكلِّ نفس في يوم الإحضار ما عملت من خير وما عملت من سوء، فتودّ في ذلك اليوم لو أنّ بينها وبين ما عملت من سوء أمداً بعيداً، أي زماناً متأخّراً، وأنّه لم يحضر ذلك اليومَ. فالضمير في قوله وبينه على هذا يعود إلى ما عملتْ من سوء، فحُوِّل التركيب، وجُعل (تودّ) هو الناصب ليوم، ليستغنى بكونه ظرفاً عن كونه فاعلاً. أو يكون أصل الكلام: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير ومن شرّ محضراً، تودّ لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم أمداً بعيداً؛ ليكون ضمير بينه عائداً إلى يوم أي تودّ أنّه تأخّر ولم يحضر كقوله: {رب لولا أخرتنِي إلى أجل قريب فأصدّق} [المنافقون: 10] وهذا التحويل من قبيل قول امرئ القيس. ويوماً على ظهر الكثيب تعذّرت *** عليّ وآلت حِلفة لم تُحَلَّل فإنّ مقصده ما حصل في اليوم، ولكنّه جعل الاهتمام بنفس اليوم، لأنّه ظرفه. ومنه ما يجيء في القرآن غير مرة، ويكثر مثل هذا في الجمل المفصول بعضها عن بعض بدون عطف لأنّ الظرف والمجرور يشبهان الروابط، فالجملة المفصولة إذا صدّرت بواحد منها أكسبها ذلك نوع ارتباط بما قبلها: كما في هذه الآية، وقوله تعالى: {وإذ قالت امرأة عمران} [آل عمران: 35] ونحوهما، وهذا أحسن الوجوه في نظم هذه الآية وأومأ إليه في «الكشاف». وقيل منصوب باذكر، وقيل متعلق بقوله: {المصير} وفيه بعد لطول الفصل، وقيل بقوله: (ويحذّركم) وهو بعيد، لأنّ التحذير حاصل من وقت نزول الآية، ولا يحسن أن يجعل عامل الظرف في الآية التي قبل هذه لعدم التئام الكلام حق الالتئام. فعلى الوجه الأول قوله تودّ هو مبدأ الاستئناف، وعلى الوجوه الأخرى هو جملة حالية من قوله وما عمِلت من سُوء. وقوله: {ويحذركم الله نفسه} يجوز أن كون تكريراً للتحذير الأول لِزيادة التأكيد كقول لبيد: فتنازَعَا سَبِطاً يَطير ظِلاله *** كدُخان مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرامُها مَشْمُولَةٍ غُلِثت بنابت عَرنَج *** كدُخَاننِ نَارٍ سَاطِععٍ أسْنَامُها ويجوز أن يكون الأول تحذيراً من موالاة الكافرين، والثاني تحذيراً من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضراً. والخطاب للمؤمنين ولذلك سمّى الموعظة تحذيراً: لأنّ المحذّر لا يكون متلبّساً بالوقوع في الخطر، فإنّ التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالاً بعدَ الوقوع وذيّله هنا بقوله: {والله رؤوف بالعباد} للتذكير بأنّ هذا التحذير لمصلحة المحذّرين. والتعريف في العباد للاستغراق: لأنّ رأفة الله شاملة لكلّ الناس مسلمهم وكافرهم: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة} [فاطر: 45] {الله لطيف بعباده} [الشورى: 19] وما وعيدهم إلاّ لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلاّ لصدق كلماته، وانتظاممِ حكمته سبحانه. ولك أن تجعل (أل) عوضاً عن المضاف إليه أي بعباده فيكون بشارة للمؤمنين.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} انتقال إلى الترغيب بعد الترهيب على عادة القرآن. والمناسبةُ أنّ الترهيب المتقدم ختم بقوله: {والله رؤف بالعباد} [آل عمران: 30] والرأفة تستلزم محبة المرؤف به الرؤفَ، فجَعْلُ محبة الله فعلاً للشرط في مقام تعليق الأمر باتباععِ الرسول عليه مَبْنِيٌّ على كون الرأفة تستلزم المحبة، أو هو مبني على أنّ محبة الله أمر مقطوع به من جانب المخاطبين، فالتعليق عليه تعليق شرط محقّق، ثم رتّب على الجزاء مشروط آخر وهو قوله: {يحببكم الله} لكونه أيضاً مقطوع الرغبة من المخاطبين، لأنّ الخطاب للمؤمنين، والمؤمن غايةُ قصده تحصيل رضا الله عنه ومحبته إياه. والمحبة: انفعال نفساني ينشأ عند الشعور بحسن شيء: من صفات ذاتية. أو إحسان، أو اعتقاد أنّه يُحِب المستحسِنَ ويَجُر إليه الخير. فإذا حصل ذلك الانفعال عقِبَهُ ميل وانجذاب إلى الشيء المشعور بمحاسنه، فيكون المنفعِل محبّاً، ويكون المشعور بمحاسنه محبوباً، وتُعدّ الصفات التي أوجبت هذا الانفعال جمالاً عند المحبّ، فإذا قويَ هذا الانفعال صار تهيّجاً نفسانياً، فسُمي عشقاً للذوات، وافتنَاناً بغيرها. والشعور بالحسن الموجبُ للمحبة يُستمدّ من الحواسّ في إدراك المحاسن الذاتية المعروفة بالجمال، ويُستمد أيضاً من التفكّر في الكمالات المستدلّ عليها بالعقل وهي المدعوة بالفضيلة، ولذلك يحبّ المؤمنون الله تعالى، ويحبّون النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً للكمالات، واعتقاداً بأنّهما يدعوانهم إلى الخير، ويحبّ الناس أهل الفضل الأوّلين كالأنبياء والحكماء والفاضلين، ويحبون سُعاة الخير من الحاضرين وهم لم يَلْقوهم ولا رَأوْهم. ويَرجِع الجماللِ والفضيلة إلى إدراك النفس ما يلائمها: من الأشكال، والأنغام، والمحسوسات، والخلال. وهذه الملاءمة تكون حسيّة لأجل مناسبة الطبع كملاءمة البرودة في الصيف، والحرّ في الشتاء، وملاءمة الليِّن لسليم الجلد، والخُشِن لمن به داعي حِكّة، أو إلى حصول منافع كملاءمة الإحسان والإغاثة. وتكون فكرية لأجل غايات نافعة كملاءمة الدواء للمريض، والتعبَ لجاني الثمرة، والسهَر للمتفكّر في العلم، وتكون لأجل الإلف، وتكون لأجل الاعتقاد المحض، كتلقّي الناس أنّ العلم فضيلة، ويدخل في هذين محبة الأقوام عوائدَهم من غير تأمل في صلاحها، وقد تكون مجهولة السبب كملاءمة الأشكال المنتظمة للنفوس وملاءَمة الألوان اللطيفة. وفي جميع ذلك تستطيع أن تزيد اتضاحاً بأضدادها كالأشكال الفاسدة، والأصوات المنكرة، والألوان الكريهة، دائماً أو في بعض الأحوال، كاللون الأحمر يراه المحموم. ولم يستطع الفلاسفة توضيح علّة ملاءمة بعض ما يعبر عنه بالجمال للنفوس: ككون الذات جميلة أو قبيحة الشكل، وكون المربع أو الدائرة حَسناً لدى النفس، والشكللِ المختلّ قبيحاً، ومع الاعتراف باختلاف الناس في بعض ما يعبر عنه بالجمال والقبح كما قال أبو الطيب: ضُروبُ الناس عُشاقٌ ضُرُوبا *** وأنّ بعض الناس يستجيد من الملابس ما لا يرضى به الآخر ويستحسن من الألوان ما يستقبحه الآخر، ومع ذلك كله فالمشاهَد أنّ معظم الأحوال لا يختلف فيها الناس السالمو الأذواق. فأما المتقدمون فقال سُقراط: سبب الجمال حبّ النفع، وقال أفلاطون: «الجمال أمر إلا هي أزلي موجود فِي عالم العقل غير قابل للتغير قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلمّا نزلت إلى الأجسام صارت مهماً رأت شيئاً على مِثال ما عهِدته في العوالم العقلية وهي عالم المِثال مَالت إليه لأنّه مألوفها من قبل هبوطها». وذهب الطبائعيون: إلى أنّ الجمال شيء ينشأ عندنا عن الإحساسسِ بالحواس. ورأيتُ في كتاب «جامع أسرار الطب» للحكيم عبد الملك ابن زُهر القرطبي «العشق الحسي إنما هو ميل النفس إلى الشيء الذي تستحسنه وتستلذّه، وذلك أنّ الروح النفساني الذي مسكنه الدمَاغ قريب من النور البصري الذي يحيط بالعين ومتصل بمؤخّر الدماغ وهو الذُّكْر فإذا نظرت العين إلى الشيء المستحسَن انضم النوري البصريّ وارتَعَد فبذلك الانضمام والارتعاد يتصل بالروح النفساني فيقبله قبولاً حسناً ثم يودعه الذُّكر فيوجب ذلك المحبةَ. ويشترك أيضاً بالروح الحيواني الذي مسكنه القَلب لاتصاله بأفعاله في الجسد كله فحينئذ تكون الفكرة والهم والسهر». والحق أنّ منشأ الشعور بالجمال قد يكون عن الملائم، وعن التأثّر العصبي، وهو يرجع إلى الملائم أيضاً كتأثّر المحمُوم باللون الأحمر، وعن الإلف والعادة بكثرة الممارسة، وهو يرجع إلى الملائم كما قال ابن الرومي: وحَبّبَ أوطَانَ الرجاللِ إليهِمُ *** مآربُ قَضّاها الشبابُ هُنالِك إذَا ذَكَروا أوطانَهم ذَكّرَتْهُمُ *** عُهُودَ الصِّبَا فيها فحنوا لِذَلِكَ وعن ترقّب الخير والمنفعة وهو يرجع إلى الملائم، وعن اعتقاد الكمال والفضيلة وهو يرجع إلى المألوف الراجع إلى الممارسة بسبب ترقّب الخير من صاحب الكمال والفضيلة. ووراء ذلك كلّهِ شيءٌ من الجمال ومن المحبة لا يمكن تعليله وهو استحسان الذوات الحسنة واستقباح الأشياء الموحشة فنرى الطفل الذي لا إلف له بشيء ينفر من الأشياء التي نراها وحشة. وقد اختلف المتقدمون في أنّ المحبة والجمال هل يقصران على المحسوسات: فالذين قصروهما على المحسوسات لم يثبتوا غير المحبّة المادية، والذين لم يقصروهما عليها أثبتوا المحبة الرمزية، أعني المتعلقة بالأكوان غير المحسوسة كمحبةِ العبد للَّهِ تعالى، وهذا هو الحق، وقال به من المتقدّمين أفلاطون، ومن المسلمين الغزالي وفخر الدين وقد أضيفت هذه المحبة إلى أفلاطون، فقيل محبة أفلاطونية: لأنّه بحث عنها وعلَّلَها فإننا نسمع بصفات مشاهير الرجال مثل الرسل وأهل الخير والذين نفعوا الناس، والذين اتصفوا بمحامد الصفات كالعِلم والكرم والعدل، فنجد من أنفسنا ميلاً إلى ذكرهم ثم يقوى ذلك الميلُ حتى يصير محبّة منا إياهم مع أننا ما عرفناهم، ألا ترى أنّ مزاولة كتب الحديث والسيرةِ ممّا يقوّي محبة المزاوِل في الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك صفات الخالق تعالى، لما كانت كلها كمالات وإحساناً إلينا وإصلاحاً لفاسدنا، أكسبنا اعتقادُها إجلالاً لموصوفها، ثم يذهب ذلك الإجلال يقوَى إلى أن يصير محبّة وفي الحديث: «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أنْ يكونَ الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يُحب المرءَ لا يحبّه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» فكانت هذه الثلاثة من قبيل المحبّة ولذلك جُعل عندها وجدان حلاوة الإيمان أي وجدانه جميلاً عند معتقدِه. فأصحاب الرأي الأول يرون تعليق المحبة بذات الله في هذه الآية ونحوها مجازاً بتشبيه الرغبة في مرضاته بالمحبة، وأصحاب الرأي الثاني يرونه حقيقة وهو الصحيح. ومن آثار المحبّة تطلّب القرب من المحبوب والاتّصاللِ به واجتناب فراقه. ومن آثارها محبة ما يسّره ويرضيه، واجتناب ما يغضبه، فتعليق لزوم اتّباع الرسول على محبة الله تعالى لأنّ الرسول دعا إلى ما يأمر الله به وإلى إفراد الوجهة إليه، وذلك كمال المحبّة. وأما إطلاق المحبة في قوله: {يحببكم الله} فهو مجاز لا محالة أريد به لازم المحبّة وهو الرضى وسَوْق المنفعة ونحو ذلك من تجليات لله يعلمها سبحانه. وهما المعبر عنهما بقوله: {يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} فإنّ ذلك دليل المحبة وفي القرآن: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم} (المائدة: 18). وتعليق محبة الله إياهم على {فاتبعون} المعلّق على قوله: {إن كنتم تحبون الله} ينتظم منه قياس شرطي اقتراني. ويدل على الحب المزعوم إذا لم يكن معه اتّباع الرسول فهو حبّ كاذب، لأنّ المحب لمن يحبّ مطيع، ولأنّ ارتكاب ما يكرهه المحبوب إغاضة له وتلبس بعدوّه وقد قال أبو الطيب: أأحبّه وأحبّ فيه ملامة *** إنّ الملامة فيه من أعدائه فعلم أنّ حب العدوّ لا يجامع الحب وقد قال العتابي: تودّ عدوي ثم تزعم أنّني *** صديقك ليس النوك عنك بعازب وجملة {والله غفور رحيم} في قوة التذييل مثل جملة {والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284] المتقدمة. ولم يذكر متعلّق للصفتين ليكون الناس ساعين في تحصيل أسباب المغفرة والرحمة.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} عودة إلى الموعظة بطريق الإجمال البحت: فَذْلَكَةً للكلام، وحرصاً على الإجابة، فابتدأ الموعظة أولاً بمقدمة وهي قوله: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} [آل عمران: 10] ثم شرع في الموعظة بقوله: {قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12] الآية. وهو ترهيب ثم بذكر مقابله في الترغيب بقوله: {قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم} [آل عمران: 15] الآية ثم بتأييد ما عليه المسلمون بقوله: {شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18] الآية وفي ذلك تفصيل كثير. ثم جاء بطريق المجادلة بقوله: {فإن حاجّوك} [آل عمران: 20] الآية ثم بترهيب بغير استدلال صريح ولكن بالإيماء إلى الدليل وذلك قوله: {إن الذين يكفرون بآيات اللَّه ويقتلون النبيين بغير حق} [آل عمران: 21] ثم بطريق التهديد والإنذار التعريضي بقوله: {قل اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26] الآيات. ثم أمر بالقطيعة في قوله: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} [آل عمران: 28]. وختم بذكر عدم محبة الكافرين ردّاً للعجز على الصدر المتقدم في قوله: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم} [آل عمران: 10] الآية ليكون نفي المحبة عن جميع الكافرين، نفياً عن هؤلاء الكافرين المعيَّنين.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)} انتقال من تمهيدات سبب السورة إلى واسطة بين التمهيد والمقصد، كطريقة التخلّص، فهذا تخلّص لمحاجّة وفد نَجْرَانَ وقد ذكرناه في أول السورة، فابتُدئ هنا بذكر آدم ونوح وهما أبَوا البشر أو أحدُهما وذكر إبراهيم وهو أبو المقصودين بالتفضيل وبالخطاب. فأما آدم فهو أبو البشر باتفاق الأمم كلها إلاّ شذوذاً من أصحاب النزعات الإلحادية الذين ظهروا في أوروبا واخترعوا نظرية تسلسل أنواع الحيوان بعضها من بعض وهي نظرية فائلة. وآدم اسم أبي البشر عند جميع أهل الأديان، وهو علَم عليه وضعه لنفسه بإلهام من الله تعالى كما وضع مبدأ اللغة، ولا شك أنّ من أول ما يحتاج إليه هو وزوجه أن يعبِّر أحدهما للآخر، وظاهر القرآن أنّ الله أسماه بهذا الاسم من قبل خروجه من جنة عدن ولا يجوز أن يكون اسمه مشتقاً من الأدمة، وهي اللون المخصوص لأنّ تسمية ذلك اللون بالأدمة خاص بكلام العرب فلعلّ العرب وضعوا اسم ذلك اللون أخذاً من وصف لَون آدم أبي البشر. وقد جاء في سفر التكوين من كتاب العهد عند اليهود ما يقتضى: أنّ آدم وُجد على الأرض في وقت يوافق سنة 3942 اثنتين وأربعين وتسعمائة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى وأنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة فتكون وفاته في سنة 3012 اثنتي عشرة وثلاثة آلاف قبل ميلاد عيسى هذا ما تقبّله المؤرّخون المتبعون لضبط السنين. والمظنون عند المحققين الناظرين في شواهد حَضارة البشرية أنّ هذا الضبط لا يُعتمد، وأن وجود آدم متقادم في أزمنة مترامية البعد هي أكثر بكثير مما حدّده سفر التكوين. وأمّا نوح فتقول التوراة: إنه ابن لاَمك وسمّي عند العرب لَمَك بن متوشالخ بن أخنوخَ (وهو إدريس عند العرب) ابن يارد بتحتية في أوله بن مَهلئيل بميم مفتوحة فهاء ساكنة فلام مفتوحة بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم. وعلى تقديرها وتقدير سني أعمارهم يكون قد ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة وألفين قبل ميلاد عيسى وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف قبل ميلاد عيسى والقول فيه كما تقدم في ضبط تاريخ وجود ءادم. وفي زمن نوح وقع الطوفان على جميع الأرض ونجاه الله وأولادَه وأزواجهم في الفُلْك فيكون أباً ثانياً للبشر. ومن الناس من يدّعى أنّ الطوفان لم يعم الأرض وعلى هذا الرأي ذهب مؤرّخو الصين وزعموا أنّ الطوفان لم يشمل قطرهم فلا يكون نوح عندهم أباً ثانياً للبشر. وعلى رأي الجمهور فالبشر كلهم يرجعون إلى أبناء نوح الثلاثة سام، حام، ويافث، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس حسب الحديث الصحيح، وعُمِّر نوح تسعماية وخمسين سنة على ما في التوراة فهو ظاهر قوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} [العنكبوت: 14] وفي التوراة: أنّ الطوفان حدث وعمر نوح ستمائة سنة وأنّ نوحاً صار بعد الطوفان فلاّحاً وغرس الكرم واتّخذ الخمر. وذكر الألوسي صفته بدون سند فقال: كان نوح دقيق الوجه في رأسه طول عظيمَ العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرّة طويل القامة جسيماً طويل اللحية، قيل: إنّ مدفنه بالعراق في نواحي الكوفة، وقيل في ذيل جبل لبنان، وقيل بمدينة الكرك، وسيأتي ذكر الطوفان: في سورة الأعراف، وفي سورة العنكبوت، وذكر شريعته في سورة الشورى، وفي سورة نوح. والآل: الرهط، وآل إبراهيم: أبناؤه وحفيده وأسباطه، والمقصود تفضيل فريق منهم. وشمل آل إبراهيم الأنبياءَ من عقبه كموسى، ومَن قبله ومن بعده، وكمحمد عليه الصلاة والسلام، وإسماعيل، وحنظلةَ بن صفوان، وخالد بن سنان. وأما آل عمران: فهم مريم، وعيسى، فمريم بنت عمران بن ماتان كذا سماه المفسرون، وكان من أحبار اليهود، وصالحيهم، وأصله بالعبرانية عمرام بميم في آخره فهو أبو مريم، قال المفسّرون: هو من نسل سليمان بن داود، وهو خطأ، والحق أنه من نسل هارون أخي موسى، كما سيأتي قريباً. وفي كتب النصارى: أنّ اسمه يوهاقيم، فلعله كان له اسمان ومثله كثير. وليس المراد هنا عِمران والد موسى وهارون؛ إذ المقصود هنا التمهيد لذكر مريم وابنِها عيسى بدليل قوله: {إذ قالت امرأت عمران}. وتقدم الكلام على احتمال معنى الآل عند قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون} في سورة البقرة (49) ولكنّ الآل هنا متعين للحمل على رهط الرجل وقرابته. ومعنى اصطفاء هؤلاء على العالمين اصطفاء المجموع على غيرهم، أو اصطفاء كلّ فاضل منهم على أهل زمانه. وقوله: ذرية بعضها من بعض} حال من آل إبراهيم وآللِ عمران. والذرية تقدم تفسيرها عند قوله تعالى: {قال من ذريتي} في سورة البقرة (124) وقد أجمل البعض هنا: لأنّ المقصود بيان شدّة الاتصال بين هذه الذرية، فمن للاتصال لا للتبعيض أي بين هذه الذرية اتّصال القرابة، فكل بعض فيها هو متّصل بالبعض الآخر، كما تقدم في قوله تعالى: {فليس من اللَّه في شيء} [آل عمران: 28]. والغرض من ذكر هؤلاء تذكير اليهود والنصارى بشدّة انتساب أنبيائهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فما كان ينبغي أن يجعلوا موجب القرابة مُوجبَ عداوة وتفريق. ومن هنا ظهر موقع قوله: {والله سميع عليم} أي سميع بأقوال بعضكم في بعضضِ هذه الذرية: كقول اليهود في عيسى وأمه، وتكذيبهم وتكذيب اليهود والنصارى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
|